1- كل أمتي معافى إلا المجاهرين. 2- معنى المجاهرة بالمعاصي. 3- مفاسد المجاهرة بالمعاصي. 4- متى يباح الإخبار بالمعصية؟ 5- أحكام تتعلق بالمجاهر بالمعاصي. 6- استحباب ستر غير المجاهر. 7- الأمر بتغيير المنكر الواقع. 8- الأمر بستر الأسرار الزوجية. 9- ستر الطبيب لأسرار الناس. 10- صور من المجاهرة في هذا العصر.
الخطبة الأولى
من سنّة النبيّ ومِن حديثه ننطلق، ونأخذ النورَ ممّا وجَّهنا به عليه الصلاة والسلام في هذه المسألة العظيمة التي هي من الأمور المهمّة في حِفظ مجتمع المسلمين وصيانةِ دينهم وعفافهم، روى الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((كلّ أمّتي معافًى إلاّ المجاهرين، وإنّ من المجاهرة أن يعملَ الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان، عملتُ البارحةَ كذا وكذا، وقد بات يستره ربّه، ويصبِح يكشِف سترَ الله عليه)).
((كلّ أمتي معافَى)) مِن العافية وأنّ الله سبحانه وتعالى يغفر الذنبَ ويقبل التوبَة، ((كلّ أمّتي معافى إلا المجاهرين))، هؤلاء لا يعافَون، المجاهرون بالمعاصي لا يعافَون، الأمّة يعفو العفوُّ عن ذنوبها، لكن الفاسقَ المعلن لا يعافيه الله عز وجلّ، وقال بعض العلماء: إنّ المقصودَ بالحديث كلُّ أمّتي يترَكون في الغيبة إلاّ المجاهرين، والعفو بمعنى الترك، والمجاهر هو الذي أظهر معصيتَه، وكشف ما ستر الله عليه، فيحدِّث به، قال الإمام النووي رحمه الله: "من جاهر بفسقِه أو بدعته جاز ذكرُه بما جاهر به".
هذه المجاهرة التي هي التحدُّث بالمعاصي، يجلس الرجلُ في المجلس كما أخبر النبي ويقول: عمِلتُ البارحة كذا وكذا، يتحدّث بما فعل، ويكشف ما سُتِر، وقد قال النبي : ((اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألمّ بشيء منها فليستتر بستر الله)) رواه الحاكم، وهو حديث صحيح.
لماذا أيّها الإخوة؟ كلُّ الأمة معافى إلا أهل الإجهار؟ أولاً لأن في الجهر بالمعصية استخفافًا بمن عُصي وهو الله عزّ وجل، استخفافًا بحقّه وبحقّ رسوله ، واستخفافًا بصالحي المؤمنين، وإظهار العناد لأهل الطاعة ولمبدأ الطاعة، معاندة الطاعة، والمعاصي تُذلّ أهلها، وهذا يذلّ نفسَه، ويفضحها في الدنيا قبل الآخرة.
عباد الله، إن المجاهرة بالمعصية والتبجُّحَ بها بل والمفاخرة قد صارت سمةً من سمات بعض الناس في هذا الزمن، يفاخرون بالمعاصي، تباهون بها، وينبغي على الإنسان أن يتوبَ ويستتر، ولكن هؤلاء يجاهرون، قال النووي رحمه الله: "يكره لمن ابتُلي بمعصية أن يُخبر غيره بها"، يعني: ولو شخصًا واحدًا، بل يُقلع عنها ويندَم ويعزم أن لا يعود، فإن أخبر بها شيخَه الذي يعلّمه أو الذي يفتيه أو نحوَه من صديق عاقلٍ صاحب دين مثلاً، يرجو بإخباره أن يعلّمه مخرجًا منها، أو ما يَسْلَمُ به من الوقوع في مثلها، أو يعرّفه السببَ الذي أوقعه فيها، فهو حسن، وإنما يحرُم الإجهار حيثُ لا مصلحة؟ لأن المفسدةَ حينئذ ستكون واقعة، فالكشفُ المذموم هو الذي يقع على وجه المجاهرة والاستهزاء، لا على وجه السؤال والاستفتاء، بدليل خبر من واقَعَ امرأته في رمضان، فجاء فأخبر النبي لكي يعلّمه المخرج، ولم ينكر عليه النبي في إخباره.
عباد الله، إن المجاهرةَ بالمعاصي، إن إشاعةَ المعاصي، إن التباهيَ بها يحمل الناسَ الآخرين على التقليد والوقوع فيها.
إن الشريعةَ لما شدَّدت في المجاهرة بالمعصية وكلُّها حكمة، والشارع يعلم أن المجاهِر يدعو غيره، ويجذبه ويزيّن له ويغريه، ولذلك كانت المجاهرة بالمعصية أمرًا خطيرًا جدًا. وقد ذكر العلماء إجراءاتٍ متعددة في الفتاوى والأحكام بشأن المجاهر، فنصّوا على كراهية الصلاة خلفَ الفاسق عمومًا، ما دام فسقه لا يكفِّر فالصلاة صحيحة لكنه لا ينال ثوابَ من صلى خلف الإمام التقي، وقال بعضهم بإعادة الصلاة خلف من جاهر بالمعصية، وسئل ابن أبي زيد رحمه الله عمّن يعمل المعاصي: هل يكون إمامًا؟ فأجاب: "أما المصرُّ المجاهِر فلا"، لا يمكن أن يكون إمامًا، ولا يجعَل إمامًا، ولا يمكَّن من ذلك، ويطالب بتغيره ويرفع أمره؛ لأنه منصِب قياديّ يؤمّ فيه المسلمين، كيف يؤمّهم ويتقدّمهم، ثم يكون مجاهرًا بمعصية؟! وسئل عمّن يعرَف منه الكذب العظيم أو القتّات النمام الذي ينقل الأخبار للإفساد بين الناس، هل تجوز إمامته؟ فأجاب: "لا يصلّى خلف المشهور بالكذب والقتات والمعلن بالكبائر، مع صحة الصلاة"، أي: أنها لا تعاد، ولكن يكره الصلاة وراء هذا الرجل.
أمّا من تكون منه الهفوة والزلّة فلا تتّبع عورات المسلمين، وقال مالك رحمه الله: "من هذا الذي ليس فيه شيء؟!" كل إنسان يعصي، وقال مالك مردِفًا: "وليس المصرّ والمجاهر كغيره"، المصيبة في المصرّ والمجاهر.
هذا في مسألة إمامته، وماذا عن عيادته إذا مرض؟ وعيادةُ المريض المسلم أجرها عظيم، ومن حقّ المسلم على المسلم، لكنّ العلماء قالوا: لا يعاد المجاهر بالمعصية إذا مرض لأجل أن يرتدع ويتوب ويرتدعَ غيره ممن يمكن أن يقع في المعصية، وإذا عاده من يدعوه إلى الله وينصحه فهو حسن لأجل دعوته، أما إذا خلا عن هذه المصلحة، ليس هناك مصلحة شرعية، فلا يعاد زجرًا له ولأمثاله.
وماذا عن الصلاة عليه؟ لقد ذكر أهل العلم رحمهم الله في هذه المسألة مسألة المجاهر بالمعصية إذا مات فإنه لا يصلّي عليه الإمام ولا أهل الفضل زجرًا له ولأمثاله، وردعًا لمن يقع في هذا، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ينبغي لأهل الخير أن يهجروا المُظهر للمنكر ميتًا إذا كان فيه كفّ لأمثاله، فيتركون تشييع جنازته"، فمن جاهر بشيء فمات مصرًا مات مجاهرًا يَتْركُ أهل الفضل والخير الصلاة عليه، ويصلي عليه عامّة الناس، ما دَام مسلمًا لم يخرج من الإسلام.
وماذا بالنسبة للسَّتر عليه؟ وما حكم غيبته؟ يندب الستر على المسلم عمومًا لأن النبي قال: ((من ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة))، فإذا علمتَ عن مسلم ذنبا فاستره، وخصوصًا إذا كان ممّن ينسَب لأهل الدين، والطعن فيه طعن في الإسلام، والعيب عليه عيب في أهل الإسلام، لكن المجاهر بالمعصية له شأن آخر، قال العلماء: "وأما المجاهر والمتهتّك فيستحبّ أن لا يستَر عليه، بل يُظهَر حاله للناس حتى يجتنبوه، وينبغي رفع أمره للقاضي حتى يقيم عليه ما يستحقّه؛ لأن سترَ مثل هذا الرجل أو المرأة يُطمعه في مزيد من الأذى والمعصية، وإذا كانت غيبة المسلمين حرامًا فإن هذا الرجلَ قد أباح للناس أن يتكلّموا في شأنه بمجاهرته، فأجاز العلماء غيبةَ المجاهر بفسقه أو ببدعته، كالمجاهر بشرب الخمر وغيره، وكما قال الإمام أحمد رحمه الله: "إذا كان الرجل معلِنًا بفسقه فليس له غيبة"، لكن النووي رحمه الله أشار إلى أن غيبتَه فيما جاهر فيه فقط، ويُهتَك فيما جاهر فيه، ويُحذَّر من شأنه، يحذَّر الناس منه، وأما هجرُه فإذا كان يرتدِع به فيجب الهجر، والهجر بالمقاطعة وعدم الكلام وعدم الزيارة وعدم السلام عليه، قال الإمام أحمد رحمه الله: "ليس لمن يسكر ويقارب شيئًا من الفواحش حرمة ولا صِلة إذا كان معلِنًا مكاشفًا"، إن قضية الإجهار حساسة جدًا في الشريعة.
أيها الإخوة، وماذا عن وليمته ودعوته إلى العرس والنكاح؟ إنَّ إجابة الوليمة واجبة بنص حديث النبي : ((ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله))، هذا في العموم، أما المجاهر فلا تجاب دعوته للعرس والنكاح، ولا تلبَّى ولا تُؤتى وليمته ما دام مجاهرًا.
أيها المسلمون، إن الله حيِيٌّ ستِّير، يحب الحياء والستر، إنه سبحانه وتعالى يحب الستر، فيجب على من ابتُلي بمعصية أن يستتر، ويجب عدم فضحه، فإذا جاهر لقد هتك الستر الذي ستره به الستِّير وهو الله عز وجل، وأحلّ للناس عِرضه. وقد أجمع العلماء على أن من اطلع على عيب أو ذنب لمؤمن ممّن لم يُعرف بالشر والأذى ولم يشتهر بالفساد ولم يكن داعيًا إليه وإنما يفعله متخوِّفًا متخفِّيًا أنه لا يجوز فضحُه، ولا كشفه للعامة ولا للخاصّة، ولا يُرفَع أمره إلى القاضي، لماذا؟ لأن النبي حثّ على ستر عورةِ المسلم، وحذّر من تتبُّع زلاته: ((من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته)) رواه ابن ماجه وصححه في صحيح الجامع. ولأن كشف هذه العورات والعيوب والتحدّث بما وقع من هذا المؤمن أو المسلم قد يؤدّي إلى غيبة محرَّمة وإشاعة للفاحشة وترويج لها، المؤمن يستُر وينصَح، والفاجر يهتك ويعيِّر، كما قال الفضيل رحمه الله.
أما من عرِف بالأذى والفساد والمجاهرة بالفسق وعدم المبالاة بما يرتكب ولا يكترث بما يقال عنه فيندَب كشف حاله للناس وإشاعة أمره بينهم، ليحذروا منه وليرفعوا أمره إلى القاضي ما لم يُخشَ مفسدة أكبر؛ لأن الستر على هذا يُطمعه في الإيذاء ومزيد من الفساد وانتهاك الحرمات والجسارة على المعصية.
هذا في المعاصي التي وقعت في الماضي، أما من رأى إنسانًا يرتكب معصيةً فيجب عليه أن يُنكر عليه، ولا يقول: أستره؛ لأن النبي قال: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)). واستثنى العلماء في مسألة الجرح الرواة لأجل سنة النبي ، والشهود يُجرح الشهود عند القاضي إذا كانوا من المجروحين لحفظ الحقوق، وكذلك من أراد أن يتولَّى صدقات أو أوقافًا أو أموال أيتام ونحو ذلك لا يحلّ الستر عليهم عندئذ، وإنما يخبر بأمرهم القاضي، لأن المسألة تتعلق بها حقوق لمسلمين أو لعامة المسلمين.
وينبغي على الإنسان المسلم إذا وقعت هفوة أو زلة أن يستر على نفسه ويتوبَ بينه وبين الله عز وجل، ولا يستحَبُّ له رفع أمره إلى القاضي ولا يكشف شأنه لأحدٍ كائنًا ما كان إلا من مثل الأمثلة التي تقدمت في الاستفتاء والاستنصاح.
الستر لأجل أن لا تشيع الفاحشة، ولأجل أن لا يعمَّ ذكرها في المجتمع، ولأجل أن تُكبت أخبارها؛ لأن نشر أخبارها يجذب إليها ولذلك فإن من الآثمين إثمًا عظيمًا الذين ينشرون أخبار الخنى والفجور والخلاعة والمجون والحفلات المختلطة والغناء ونحو ذلك على الملأ؛ لأنهم يريدون إشاعةَ الفاحشة في المجتمع المسلم، ((اجتنبوا هذه القاذورات، فمن ألمّ فليستتر بستر الله وليتب إلى الله، فإن من يُبدي لنا صفحته نُقم عليه كتاب الله)) حديث صحيح رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وغيره.
أيها المسلمون، إن النبي لما جاءه الرجل يقول: أصبتُ حدًا فأقمه عليّ، والمعصية حَصَلت خفية، إن النبي أعرض عنه. فيه إرشاد إلى عدم استحباب طلب إقامة الحد، وأنّ من وقع في شيء تكفيه التوبة فيما بينه وبين الله عز وجل.
اللهم إنا نسألك أن تتوبَ علينا، وأن ترحمنا، وأن تغفر لنا، وأن تسترنا بسترك الجميل في الدنيا والآخرة، وأن تصفح عنا الصفح الجزيل.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.