الميتة وبيان الحكمة في تحريمها والرد على من استباحها من المشركين
الحكمة من تحريم الميتة
د. صالح بن محمد الفوزان
الحمد لله رب العالمين، جعل في الحلال غنية عن الحرام، وحرم الخبائث لما في تناولها من الضرر
البالغ على الأخلاق والأجسام، وصلى الله على نبينا محمد، القائل: إن الحلال بين وإن الحرام بين
وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه،
ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام " [صحيح البخاري الإيمان (52)، صحيح مسلم المساقاة (1599)،
سنن الترمذي البيوع (1205)، سنن النسائي البيوع (4453)، سنن أبو داود البيوع (3329)، سنن ابن ماجه الفتن (3984)، مسند أحمد بن حنبل (4/270)، سنن الدارمي البيوع (2531)]
وبعد: فهذا بحث مختصر يتناول جانبا مما حرم الله التغذي به؛ لما فيه من الأضرار والمفاسد ألا وهو الميتة: تعريفها وحكمها و الرد على من استباحها من المشركين
تعريف الميتة
الميتة: هي ما فارقته الروح بغير ذكاة شرعية بأن يموت حتف أنفه من غير سبب لآدمي فيه وقد يكون ميتة لسبب فعل آدمي إذا لم يكن فعله فيه على وجه الذكاة المبيحة [
تهذيب الأسماء واللغات للنووي ص146 ج2 من القسم الثاني وأحكام القرآن]
وقد حرم الله الميتة في آيات كثيرة من كتابه منها قوله - تعالى -: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ] سورة البقرة الآية 173
وقوله - تعالى -: [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ] سورة المائدة الآية 3
و قوله - تعالى -: [لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً] سورة الأنعام الآية 145
وقد أجمع العلماء على تحريم الميتة في حال الاختيار [المغني مع الشرح الكبير ص72 ج11].
الحكمة من تحريم الميتة
الحكمة من تحريمها: أنها تكون في الغالب ضارة؛
لأنها لا بد أن تكون ماتت بمرض أو ضعف أو نسمة خفية مما يسمى الآن بالميكروب...يولد فيها سموما،
وقد يعيش ميكروب المرض في جثة الميت زمنا؛ ولأنها مما تعافها الطباع السليمة وتستقذره وتعده خبثا
[تفسير المنار ص 134 ج6.]-
وكذلك ما فيها من احتباس الدم والرطوبة التي لا تزول منها إلا بالذكاة الشرعية - فإن قيل:
هذا الفرض يتحقق في ذبح الكافر غير الكتابي ونحوه ممن ليس من أهل الذكاة وفي ذبيحة تارك التسمية
فلماذا حرمت ذبيحة كل من هؤلاء واعتبرت ميتة؟
فالجواب:
إن العلة لم تنحصر في احتقان الدم بل هناك علل أخرى لتحريم الميتة، ولا يلزم من انتفاء بعضها انتفاء الحكم الأخرى، بل يخلفه علة أخرى - " فإن الله - سبحانه - حرم علينا الخبائث، والخبث الموجب للتحريم
قد يظهر لنا وقد يخفى، فما كان ظاهرا لم ينصب عليه الشارع علامة غير وصفه، وما كان خفيا
نصب عليه علامة تدل على خبثه، فاحتقان الدم في الميتة سبب ظاهر، وأما ذبيحة المجوسي والمرتد
وتارك التسمية ومن أهل بذبيحة لغير الله فإن ذبح هؤلاء أكسب المذبوح خبثا أوجب تحريمه،
ولا ينكر أن يكون ذكر اسم الأوثان والكواكب والجن على الذبيحة يكسبها خبثا وذكر اسم الله وحده
يكسبها طيبا إلا من قل نصيبه من حقائق العلم والإيمان وذوق الشريعة، وقد جعل الله - سبحانه -
ما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح فسقا وهو الخبيث، ولا ريب أن ذكر اسم الله على الذبيحة يطيبها
ويطرد الشيطان عن الذابح والمذبوح، فإذا أخل بذكر اسمه لابس الشيطان الذابح والمذبوح فأثر ذلك
خبثا في الحيوان "
[أعلام الموقعين لابن القيم ص 103 - 104 ج2 ببعض تصرف. ].
الرد على من استباح الميتة من المشركين وغيرهم
ذكر الله - سبحانه - في القرآن الكريم عن المشركين أنهم يستبيحون الميتة ويجادلون المؤمنين في ذلك،
وحذر المؤمنين عن طاعتهم في استباحة هذا المحرم واعتبر الطاعة لهم في ذلك شركا فقال - سبحانه -:
[فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ] سورة الأنعام الآية 118
[وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ] سورة الأنعام الآية 119
وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ] سورة الأنعام الآية 120
[وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ
لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ]
سورة الأنعام الآية 121.
"إنه يأمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه وذكر الله يقرر الوجهة ويحدد الاتجاه ويعلن إيمان الناس بطاعة
هذا الأمر الصادر إليهم من الله: [فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ] سورة الأنعام الآية 118
ثم يسألهم: وما لهم يمتنعون من الأكل مما ذكر اسم الله عليه وقد جعله الله لهم حلالا، وقد بين لهم الحرام الذي لا يأكلونه إلا اضطرارا فانتهى بهذا البيان
كل قول في حله وحرمته وفي الأكل منه أو تركه: [وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ
لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ] سورة الأنعام الآية 119
ولما كانت هذه النصوص تواجه قضية حاضرة إذ ذاك في البيئة حيث كان المشركون يمتنعون من ذبائح
أحلها الله، ويحلون ذبائح حرمها الله، ويزعمون أن هذا هو شرع الله اقتضى الحال أن يفصل في أمر هؤلاء
المشترعين المفترين على الله فيقرر أنهم إنما يشرعون بأهوائهم ويضلون الناس بما يشرعونه لهم من عند
أنفسهم ويعتدون على ألوهية الله وحاكميته بمزاولتهم لخصائص الألوهية وهم عبيد
[وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ] سورة الأنعام الآية 119
ويأمرهم بأن يتركوا الإثم كله ظاهره وخفيه - ومنه الذي يزاولونه من إضلال الناس بالهوى وبغير علم،
وحملهم على شرائع ليست من عند الله افتراء على الله أنها شريعة، ويحذرهم مغبة هذا الإثم الذي يقترفونه:
[وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ] سورة الأنعام الآية 120،
ثم ينهى عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح التي كانوا يذكرون عليها أسماء آلهتهم،
أو ينحرونها للميسر ويستقسمونها بالأزلام، أو من الميتة التي كانوا يجادلون المسلمين في تحريمها -
يزعمون أن الله ذبحها - فكيف يأكل المسلمون مما ذبحوا بأيديهم ولا يأكلون مما ذبح الله، وهو تصور
من تصورات الجاهلية التي لا حد لسخفها وتهافتها في جميع الجاهليات.
وهذا ما كانت الشياطين من الإنس والجن توسوس به إلى أوليائها ليجادلوا المسلمين فيه من أمر هذه الذبائح
مما تشير إليه الآيات: [وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ]
سورة الأنعام الآية 121"
[في ظلال القرآن للسيد قطب ص 1196 - 1197 ج3. ]
فالمشركون (يضلون بأهوائهم) فيقولون ما ذبح الله بسكينه (يعنون الميتة) خير مما ذبحتم بسكاكينكم (يعنون المذكاة)
وفي ضمن ذلك أنهم يحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله، وهذا قلب للحقائق، فهم يقولون
هذا (بغير علم) أي بغير علم يعلمونه في أمر الذبح؛
إذ من الحكمة فيه كما سبق: إخراج ما حرم الله علينا من الدم بخلاف الميتة، ولذلك شرع الله الذكاة
في محل مخصوص ليكون الذبح فيه سببا لجذب كل دم في الحيوان بخلاف غيره من الأعضاء،
واستمرارا مع تشريعهم في إباحة الميتة كانوا يستبيحون ميتة الأجنة في بطون الأنعام ويشركون
في أكلها النساء والرجال كما حكاه الله عنهم بقوله:
[وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ]
سورة الأنعام الآية 139
فتحريم الميتة هو حكم الله المبني على العلم والحكمة.
وإباحتها هي حكم الجاهلية المبني على الهوى والجهل [وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ] سورة المائدة الآية 50،
وطاعة الله في تحريمها توحيد، وطاعة أهل الجاهلية في إباحتها شرك [وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ] سورة الأنعام الآية 121
لأن التحليل والتحريم حق لله - سبحانه - لا يشاركه فيه أحد [وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ] سورة الرعد الآية.
15 /10/1428م
27 /10/2007م